مكتبـــــة الفوائد

2025-12-03 10:00:00

283- أَوَمَا علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية

283-[ أَوَمَا علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ] 

قال التنوخي :(الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه) "حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الكاتب، وكان يعرف بالديناري، لما بين أبيه الحسن بن رجاء، وبين دينار بن عبد الله، من القرابة، فإنهما كانا ابني خالة، على ما أخبرني، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري الكاتب، جد أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن مقلة لأمه، قال: لما تخلص أبو أيوب سليمان بن وهب، من نكبة المعتمد، وكنت أكتب له، وجلس في منزله، أمرني أن أكتب إلى العمال الذين ضياعه في أعمالهم، كتباً أعرفهم فيها رجوع الخليفة له، وتبينه باطل ما أنهي إليه، وحمل به عليه، وأخاطبهم عنه في أمر ضياعه وأسبابه.فكتبت نسخة، قلت فيها: إن أمير المؤمنين - أعزه الله - لما وقف على تمويه من موه عليه في أمرنا، فعل وصنع.فلما وقف على هذا الفصل، خط على هذا الحرف، وأبدله بغيره، ولم يغير في النسخة سواه.وقال لي: إذا فرغت من تحرير الكتب، فأذكرني بالتمويه، أحدثك بما كرهته له.قال: فحررت الكتب، فلما خلا، سألته: لم ضرب على التمويه ؟، فقال: نعم لما غضب علي الواثق، وعلى أحمد بن الخصيب، بسبب إيتاخ، وأشناس، كانت موجدته علينا بسبب واحد، وحبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس والقيد، إلى أن كلم فينا، فأمر بإحضارنا.فقلت لأحمد بن الخصيب: قد دعانا، وأظن أنه سيوبخنا، ويعدد علينا ما قرفنا به عنده، ليخرج ما في نفسه، فيعظم منته علينا، بما يأتيه من إطلاقنا، وأعرف عجلتك، وتسرعك إلى ما يضرك، وكأني بك حين يبتدئ بتقريعنا، قد قطعت كلامه، وأنحيت عليه بلسانك ويديك، فأنشأت لنا استئناف غضب وموجدة، وأكسبتنا شراً مما قد أملنا الخلاص منه.فقال لي: فما أعمل ؟.قلت: لست أحسبك تتهمني على نفسي ولا عليك، ولا تشك أننا حبسنا لقضية واحدة، فولني جوابه، وأعرني سكوتك، ودعني أرفق به، وأخدعه بما تخدع به الملوك، فلعلنا نتخلص من المكروه الذي نحن فيه.قال: أفعل.فاستحلفته على ذلك، فحلف لي.فلما دخلنا الصحن، وجدنا الخليفة يستاك، وبين يديه طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فراش قائم، وبيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.فلما رآنا، قال: أحسنت إليكما، واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما.فكأني - والله - إنما أوصيت أحمد بن الخصيب، ألا يدعه ينطق.فقال له، وقد رفع يديه في وجهه: لا والله يا أمير المؤمنين، ما بلغك عنا الحق، ولا فعلنا شيئاً مما سعي بنا، ولقد موه عليك في أمرنا.فقال: إنما يموه على غبي مثلك، فأومأت إليه بعيني، فأمسك بعض الإمساك.وعاد الواثق يتمم كلامه، ويعدد علينا نعمه ومننه، فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما كفرنا نعمتك، ولا فعلنا، ولا صنعنا، إنما موه على أمير المؤمنين في أمرنا.فقال: يا جاهل، قد عدت لها، إنما يجوز التمويه على أحمق مثلك، وأومأت إليه بعيني، فأمسك.وعاد الواثق في كلامه، فما انضبط أحمد أن رد قوله، وجاء بالتمويه.فحين سمعها الواثق، انقلبت عيناه في أم رأسه، واستشاط غضباً، وأغلظ له في الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أنه زاغ عنه، لهشم وجهه، وأعمى عينه.ثم قال: يا غلمان، أخرجوه إلى لعنة الله، فأخرج أخزى خلق الله.ونالني من الجزع، والغم، والحيرة في أمره، أمر عظيم، ولم أدر، أقف، أم أمضي، وخفت إن وقفت، أن يقول: ما وقوفك بين يدي، وقضيتكما واحدة، وإن مضيت أن نرد جميعاً إلى الحبس، فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلاً، كأني أريد الخروج.فقال لي: مكانك أنت يا سليمان، هب هذا على ما هو عليه، أنت أيضاً، تنكر أنك فعلت كذا، وصنعت كذا ؟.فوجدت السبيل إلى ما أردت، فلم أزل أعترف، وألزم نفسي الجناية، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح والإقالة، إلى أن قال: قد عفوت عنك، فقبلت الأرض، وبكيت.فقال: اخلعوا عليه، واصرفوه إلى منزله، وليلزم الدار على عادته ورسمه.فلما وليت، قال: وذلك الكلب، قد كنت أردت العفو عنه، فأخرجني عن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عليه أيضاً.فخرجت، وإذا بأحمد في بعض الممرات، فعرفته الخبر، ثم قلت له: يا هذا كدت أن تأتي علينا، أرأيت أحداً يكرر على الخليفة لفظة قد كرهها، وأنكرها، ثلاث مرات ؟ أو ما علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ؟ قال: فلم يخرج من قلبي فزع التمويه، من ذلك الوقت، إلى الآن".

[الفرج بعد الشدة للتنوخي (3-154) تحقيق عبود الشالجي صادر بيروت].

فوائد ذات صلة