389-[ تفصيل من المؤلف لمسألة القيام ونقل الفتوى مهمة عن عز الدين بن عبدالسلام في ذلك]
قال أبو الحسن المالقي الأندلسي :فصل"مسألة القيام التي تكلم فيها ابن غانم تحتاج إلى تفصيل . وحاصله ما قاله أبو الوليد في بيانه . ونصه : القيام للرجال على أربعة أنواع : وجه يكون القيام فيه محظوراً ؛ ووجه يكون فيه مكروهاً ؛ ووجه يكون فيه جائزاً ؛ ووجه يكون فيه حسناً . فأما الوجه الأول ، الذي يكون فيه محظوراً ، لا يحل : فهو أن يقوم إكباراً وتعظيماً لمن يحب أن يقام إليه تكبراً وتجبراً على القائمين عليه . وأما الوجه الذي يكون القيام فيه مكروهاً ، فهو أن يقوم إكباراً وتعظيماً وإجلالاً لمن لا يحب القيام إليه ولا ينكر على القائمين إليه ؛ فهو يكره للتشبه بفعل الجبابرة ولما يخشى أن يدخله من تغير نفس المقوم إليه . وأما الوجه الذي يكون القيام فيه جائزاً ، فهو أن يقوم تجلة وإكباراً لمن لا يريد ذلك ، ولا يشبه حاله حال الجبابرة ، ويؤمن أن تتغير نفس المقوم إليه لذلك ؛ وهذه صفة معدومة إلا فيمن كان بالنبوءة معصوماً ، لأنه ، إذا تغيرت نفس عمر بالدابة التي ركب عليها ، فمن سواه بذلك أحرى وأما الوجه الرابع الذي يكون القيام فيه حسناً ، فهو أن يقوم الرجل للقادم عليه من سفر ، فرحاً بقدومه ليسلم عليه ، أو إلى القادم عليه مسروراً بنعمة أولاها الله اياه ، ليهيه بها ، أو القادم عليه المصاب بمصيبة ليعزيه بمصابه ، وما أشبه ذلك . وعلى هذا يتخرج ما ورد في هذا الباب من الآثار ، ولا يتعارض شيء منها . قال شهاب الدين أحمد بن إدريس ، وقد أشار إلى الأوجه المفسرة في البيان : وبهذا يجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام : من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً ، فليتبوأ مقعده النار وبين قيامه عليه الصلاة والسلام لعكرمة ابن أبي جهل ، لما قدم من اليمن ، فرحاً بقدومه ، وقيام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك ، ليهنيه بتوبة الله عليه ، بحضوره عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ، ولا قام من مجلسه . فكان كعب يقول : لا أنساها لطلحة وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يقام له ؛ فكانوا إذا رأوه ، لم يقوموا له ، لعلمهم بكراهيته لذلك . وإذا قام إلى بيته ، لم يزالوا قياماً حتى يدخل بيته . قال لما يلزمهم من تعظيمه ، قبل علمهم بكراهيته لذلك . وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار قوموا لسيدكم قيل : تعظيماً له ، وهو لا يريد ذلك ؛ وقيل : ليعينوه على النزول عن الدابة . وحكى أحمد أنه كان عند عز الدين بن عبد السلام ، من أعيان علماء الشافعية . فحضرته فتيا : ما تقول في القيام الذي أحدثه الناس في هذا الزمان ؟ هل يحرم ، أم لا ؟ فكتب رحمه الله : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وترك القيام في هذا الوقت يفضى للمقاطعة والمدابرة . فلو قيل بوجوبه ، ما كان بعيداً . فقرأتها بعد كتابته والناس تحدث لهم أحكام بقدر ما يحدثون من الأحوال ، من السياسات والمعاملات والاحتياطات ؛ وهي على القوانين الأول . ثم قال : ويلحق بالقيام النعوت المعتادة وأنواع المكاتبات ، على ما قرره الناس في المخاطبات ؛ وهذا النوع كثير لم تكن أسبابه في السلف ، غير أنه تقرر في قاعدته الشرع اعتبارها ، كما قال الشيخ : فإذا وجدت ، وجب اعتبارها . انتهى . وروى بعضهم أن مالكاً قيل له : ما تقول في الرجل يقوم الرجل له للفضل والفقه ؟ فيجلسه في مجلسه . قال : يكره له ذلك . ولا بأس أن يوسع له . قيل : فالمرأة تتلقى زوجها ، فتبالغ في بره وتنزع ثيابه ونعليه متى يجلس ؟ قال : ذلك حسن غير قيامها حتى يجلس . وهذا فعل الجبابرة وربما كان الناس ينتظرونه حتى ، إذا طلع ، قاموا له . ليس هذا من فعل الإسلام في شيء . وفعل ذلك لعمر بن عبد العزيز ، أول ما ولي حين خرج إلى الناس ، فأنكره ، وقال : إن تقوموا ، نقم وإن تقعدوا وإنما يقوم الناس لرب العالمين قيل له : فالرجل يقبل يد الرجل أو رأسه ؟ قال : هو من عمل الأعاجم ، لا من عمل الناس ونقل أيضاً عن مالك أنه كان رحمه الله يقوم لتلقي أصحابه عند قدومهم عليه من السفر . ومن ذلك ما ذكره القاضي أبو الفضل في كتابه المسمى بترتيب المدارك ، وتقريب المسالك ، وقد ذكر عبد الله بن مسلمة بن قعنب التميمي . ومن أصله الذي بخطه نقلت : قال ابن رشد فيما حكاه عن الجهني . كنا عند مالك ؛ فجاءه رجل فأخبره بقدوم القعنبي ؛ فقال : متى فقرب قدومه فقال : قوموا بنا إلى خير أهل الأرض نسلم عليه . فقام ، فسلم عليه . وكان مالك ، إذا جلس ، قال ليلني منكم ذوو الأحلام والنهي فربما جلس القعنبي عن يمينه . وهو أحد عباد البصرة في زمانه . قال أحمد بن الهيثم : كنا إذا أتينا القعنبي ، خرج إلينا ؛ فنراه كأنه مشرف على جهنم وتوفي بمكة سنة 220 أو 221 . وفي الاستيعاب عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها " أنها قالت ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً أو حديثاً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من فاطمة ؛ وكانت إذا دخلت عليه ، قام لها ، فقبلها ورحب بها ، كما كانت تصنع هي به ( صلى الله عليه وسلم ) . وفي هذا القدر من الكلام على مسألة القيام الكفاية".
[تاريخ قضاة الأندلس لإبي الحسن المالقي(ص26و27و28) طبعة المكتب التجاري].