674- حسن الظن بالله:
قال العلامة ابن قيم الجوزية: "وكاتكال بعضهم على قوله (صلى الله عليه وسلم):حاكيا عن ربه :"أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ماشاء"(1). يعني ما كان في ظنه فانا فاعله به ولا ريب أن حُسْنَ الظن إنما يكون مع الإحسان فإن المُحسن حَسَنُ الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يُخْلِفُ وعدَه ويقبل توبته وإنما المسيءُ المُصِرُّ على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه وهذا موجود في المشاهدة فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به ولا يُجَامِعُ وَحشَةَ الإساءة إحسانُ الظن أبدا فإن المسيء مستوحشٌ بِقَدْرِ إساءته وأحسن الناس ظنا بربه أطوعهم له كما قال الحسن البصري :(إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل)(2) وكيف يكون يحسن الظن بربه من هو شارد عنه حالٌّ مرتحلٌ في مساخطِه ! وما يغضبه متعرض للعْنَتِهِ قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة، وعادى أَولياءَه، ووالى أعداءَه ،وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفته به رسله، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر، وكيف يحسن الظن بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب .وقد قال الله في حق من شك في تعلُّقِ سمعه ببعض الجزئيات وهو السرُّ من القول:{ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أردَاكُم فأصبحتم من الخاسرين}(فصلت:23) فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما لا يليق به فإذا ظن هذا أنه يدخله الجنة كان هذا غرورا وخداعا من نفسه وتسويلا من الشيطان لا إحسان ظن بربه. فتأمَّلْ هذا الموضع وتأمَّلْ شدة الحاجة إليه وكيف يَجتمعُ في قلب العبد تيقُّنُهُ بأنه ملاقٍ الله وأن الله يسمع كلامَه ويري مكانَه ويعلم سرَّه وعلانيتَه ولا يخفى عليه خافية من أمره فإنه موقوفٌ بين يديه ومسؤولٌ عن كل ما عمل وهو مقيمٌ على مساخطهِ مضيِّعٌ لأوامره معطِّلٌ لحقوقه وهو مع هذا يُحَسِّنُ الظن به وهل هذا إلا من خِدَعِ النفوس وغرور الأماني؟ وقد قال أبو أمامة بن سهل بن حُنَيْف دخلت أنا وعُروة بن الزبير على عائشةَ رضي الله عنها فقالت: لو رأيتما رسول الله في مرض له ،وكانت عندي ستةُ دنانير أو سبعةٌ فأمرني رسول الله أن أفرقها ،قالت: فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله ثم سألني عنها فقال: ما فعلت أَكُنْتِ فَرَّقْتِ الستةَ دنانير، فقلت: لا والله لقد كان شغلني وجعك، قالت :فدعا بها فوضعها في كفه فقال: (ما ظن نبِيِّ الله لو لَقِيَ اللهَ وهذه عنده)،وفي لفظ :(ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده )(3)،فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لَقَوْهُ ومظالم العباد عندهم فإن كان يَنْفَعُهُم قولهم حَسَّنَّا ظنُونَنَا بك أنك لن تعذب ظالماً ولا فاسقاً فليصنع العبد ما شاء وليرتكب كل ما نهاه الله عنه وليحسن ظنه بالله فان النار لا تمسه فسبحان الله ما يبلغ الغرور بالعبد وقد قال إبراهيم لقومه:{أَإِفْكاً آلهةً دونَ الله تريدونَ فما ظنكم برب العالمين} الصافات (86-87) أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبَّلها منه فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن فكلما حسن ظنه بربه حسَّن عمله وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز كما في حديث الترمذي والمسند من حديث شداد ابن أوس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(4). وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتي إحسان الظن فان قيل بل يتأتي ذلك ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وان رحمته سبقت غضبه وانه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو. قيل: الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجلُّ وأكرمُ وأجودُ وأرحمُ ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به فانه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة فلو كان مُعَوَلُ حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض لَلَعَنَه وأوضع في محارمه وانتهك حرماته بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم حسن الظن بعدها فهذا حسن الظن والأول غرور والله المستعان. ولا تَسْتَطِلْ هذا الفصل فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد ففرق بين حسن الظن بالله وبين الغرور به قال الله تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمةَ الله}البقرة (213) فجعل هؤلاء أهل الرجاء البطَّالِين والفاسقين. وقد قال تعالى:{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتِنُوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ}النحل(110)، فاخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها فالعالم يضع الرجاءَ مواضعَهُ والجاهل المُغْتَرُّ يضعه في غير مواضعه".
[الداء والدواء لابن القيم الجوزية،تحقيق علي حسن الحلبي(ص34-35-36-37) دار ابن الجوزي]
(1) قال المحقق: رواه أحمد (3/491)، وابن حبان(633)، وغيرهم وسنده صحيح.
(2) قال المحقق: رواه أحمد في الزهد (ص348) .
(3) قال المحقق: رواه أحمد (6/104) وابن حبان (686) بسند حسن وله طريق أخرى حسنة أيضا...