مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

مقدمة نظم وشرح كتاب قواعد في تحقيق المخطوطات

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، الحمد لله الذي فضَّل الكاتب العدل فقال: ﴿ وليكتب بينكم كاتبٌ بالعدل ﴾، والصلاة والسلام على رسول الله الذي أمره بالقراءة فقرأ عليه جبريل ؛ فقرأ صلى الله عليه وسلم كما قرأ جبريل ؛، وعَلِمَ فعمِلَ وعلّم.اتّخذ صلى الله عليه وسلم كُتَّابًا يكتبون له، وحثّ على كَتْب العلم فقال: «قيِّدوا العلم بالكتاب»، وقال: «اكتُبوا لأبي شاه»، وأوصى بالتثبُّت في القول وذمَّ من لم يتثبَّت فقال: «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكلّ ما سمع».

أما بعد: فإنّ الله تعالى قد تكفّل بتمام وحفظ دينه فقال: ﴿ اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا ﴾، وقال عن حفظ دينه: ﴿ إنا نحنُ نزَّلنا الذِّكر وإنا له لحافظون ﴾.وصدق الله تعالى ـ ومن أصدقُ من الله قيلًا، ومن أصدقُ من الله حديثًا ـ فقد تمَّ الدِّين كلّه وحُفِظَ من عبث العابثين، وقد هيَّأ الله تعالى الأسباب الحسِّيّة والمعنوية لضمان تمام دينه وحفظه، فاختار لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أصحابًا بررةً بذلوا مُهجَ أرواحهم ونفيس أموالهم في الدفاع عن حياض الدِّين والسعي لنشره تعلّمًا وتعليمًا، تارةً مشافهةً وتارةً مكاتبةً، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.

ثم خلفهم أتباعُهم وأتباعُ أتباعِهم وهلمَّ جرًّا على اختلاف الأعصار وتباعُد الأمصار... يُقَيِّض الله ﻷ من يحمل تلك الأمانة ويؤدِّيها إلى من بعدهم إلى ساعتنا هذه، بل إلى قيام الساعة.

والناظر في كتب التاريخ ومعاجم البلدان والتراجم وتاريخ الدُّوَل وغيرها يرى شيئًا من تلك الجهود العظيمة التي عُني بها المسلمون.

شاهد المقال: أنّ العناية بشأن كُتب العلوم عمومًا قد بلغت مكانةً عظيمةً مرموقةً، ومن أدلة ذلك:

أولًا: تلك المكتبات العظيمة وخزائن الكتُب عامَّة بموظّفيها وروَّادها وعمارتها، حتى أصبحت تلك المكتبات كقلادة في عُنق أو شامة في جبين دُوَلها تفخر وتفاخر بها دولُها سائرَ الدُّوَل.

ثانيًا: تلك الهدايا القيِّمة والأوقاف الكثيرة إلى وعلى مكتبات العلم، حتى أصبح من الأمور المتعارَف عليها بين الناس في بعض الأعصار والأمصار أنّ كثيرًا من الوصايا يُضمِّنُها أصحابُها وقفًا أو أوقافًا لمدرسة أو مكتبة وغير ذلك مما يتعلّق بخدمة العلم.

ثالثًا: قيام أسواق ومحلّات خاصّة بشؤون الكتُب، مثل: باعة الكتب والأوراق والأقلام، وكذا تجليد الكتب، ناهيك عن أولئك الورَّاقين النسَّاخ الذين كانوا كعَلَم في رأسه نارٌ لشُهرتهم وكثرتهم، بل بلغ الحال إلى نسبة بعض الأسواق إليهم كـ«سوق الورَّاقين» في بغداد في دولة العبّاسيِّين.

رابعًا ـ وهو متعلّق بما قبله ـ: من عجيب عنايتهم بالكتابة اختيارهم لأجود أنواع الورَق والحبر وأجود أنواع الأقلام من الخشب أو الرِّيش أو غيره، بل وصل الحال بهم إلى عنايتهم بوعاء الحبر وتفضيل المستدير على المربَّع لكون الحبر في الإناء المستدير أكثر حركةً ممَّا يجعلُه أكثر وضوحًا عند الكتابة، وغير ذلك من دقيق حرصهم وصادق عزمهم.

خامسًا: العناية الفائقة بأمر نسخ الكتب، فقد وضعوا لذلك ضوابط مهمَّة توارثوها سلفًا عن خلف، ومع تعاقُب الأزمنة يُزاد في تلك الضوابط والمحسِّنات بما يخدم الكتاب بحسب ما يتوفّر لهم من كماليات الحياة التي كانت معدومةً عند سابقيهم، فقد وُضِعت كتُبٌ مستقلّة في علامات الترقيم وضوابط الكتابة والتحذير من الأساليب المغلوطة في طريقة كتابة النصّ، وممَّا يُذْكَر فيُشكَر في هذا المقام جهود المتأخِّرين من المحقِّقين الذين عُنوا بهذا الأمر وصنّفوا فيه ونقلوا كلام المتقدِّمين فقرَّبوا ما كان بعيدًا، وهم ـ أعني المتأخِّرين ـ كُثرٌ، ومنهم: عبدالسَّلام محمد هارون، وأحمد زكي باشا، وأحمد محمَّد شاكر، وأخوه محمود، وممَّن لهم كتاباتٌ طيِّبةٌ في هذا: د. صلاح الدِّين المنجد، ود. عبدالهادي الفضلي،
ود. موفق بن عبدالله بن عبدالقادر، وغيرهم كثير، أثاب الله تعالى الجميع خيرًا.

سادسًا: الناظر في كتب التراجم يجد كثيرًا منهم قد وُصِفوا بمهنة تتعلّق بالكتب، كقولهم: فلان الورَّاق، أو الكاتب، أو القيِّم على مكتبة كذا... إلى غير ذلك.

ومن لازم القول هنا أن يُذكر ـ من باب التأكيد لا التأسيس ـ أنّ العناية بكتُب السُّنّة بخاصة قد بلغت المرتبة الرَّفيعة في روايتها ودرايتها ونسخها ومقابلتها وسماعاتها وإجازاتها، وما سوى ذلك من الوسائل التي تُعنى بالمحافظة على الكتُب حسًّا ومعنًى، ولزيادة الفائدة في هذا المبحث يُنظر على سبيل المثال: كتابَي «الكفاية» و«الجامع» للإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، وكتاب «أدب الإملاء والاستملاء» للإمام السمعاني رحمه الله تعالى.

وعودًا على بدء: هذا الكتاب الذي بين يديك من تلك الكتُب التي تُعنى بخدمة المخطوط، ولمّا كان التصنيف تارةً نثرًا وتارةً شِعْرًا وتارةً بجمعهما جاء هذا الكتاب منظومًا ومشروحًا، فالناظم هو فهد ابن المأمون الميموني المغربي، طالبٌ في السنة الثالثة في كلِّية الشريعة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنبوية، والشارح هو عارف بن مزيد بن حامد السحيمي، معيد في كلية الدعوة وأصول الدِّين في الجامعة نفسها، والمنظومة وشرحها على كتاب «قواعد تحقيق المخطوطات» للدكتور صلاح الدِّين المنجد، وكان مقرَّرًا على الطلاب، والمقرَّر المشروح والمنظوم يتعلّق بخطوات تحقيق المخطوطات وما بعدها.

ومما ينبغي أن يُعلم هنا: أنّ التصنيف نظمًا في هذا الفنّ ـ أعني تحقيق ودراسة المخطوط ـ يُعتبر من نوادر التصنيف، فقد بحثتُ حسب الجهد عن منظوم في هذا الفنّ فلم أعثُر على شيء(1)، ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ هناك بعض الأبيات الشعرية تضمَّنت شيئًا من آداب الكتابة ومتعلّقاتها، وتلك الأبيات منها ما يكون مستقلًّا بذاته ومنها ما يكون مضمَّنًا في قصيدة طويلة تحوي عدّة مباحث، لكن الشأن هاهنا في وجود مصنَّف منظوم مستقلّ يُعنى بأمر المخطوط.

ولقد سألتُ غيرَ واحد ممَّن لهم خبرةٌ بالمخطوطات فلم أُهدَ إلى شيءٍ، وكان ممَّن سألتُ الأستاذ الفاضل: خالد بن عبدالله الغليقة، الباحث في مكتبة الملك فهد الوطنية، فأفادني بالنفي حسب بحثه وعلمه، ثمَّ اتّصلتُ هاتفيًّا ـ عن طريق الأستاذ خالد الغليقة ـ بالدكتور عصام بن محمد الشنطي، خبير معهد ـ مدير سابقًا ـ المخطوطات العربية التابع لجامعة الدُّوَل العربية في القاهرة، وسألتُه عن مصنَّف منظوم في هذا الفنّ فأجاب بالنفي حسب علمه، وقال لي: إنّ التصنيف في هذا الفنّ نظمًا يُعدّ فتحًا في التصنيف وحَرَص على الحصول على نُسَخ من هذا الكتاب بعد طبعه، بل قال لي: إنه قد يُقرِّرُه لطُلّابه.

ختامًا: شكر الله تعالى للناظم والشارح، وبارك في جهودهما، ورزقنا الله تعالى وإياهما الإخلاص في السِّرّ والعلن وفي القول والعمل، إنه تعالى سميعٌ مجيب.والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله السدحان إمام مسجد ابن قدامة


(1) وقفتُ أخيرًا على منظومة لطيفة بعنوان: «مئوية التحقيق الفريدة» نظم معالم كتاب «فن تحقيق التراث» نظلمها أحد الكاتبين في موقع «ملتقى أهل الحديث»، وقد أرَّخها بـ«الجمعة 23 محرَّم 1426هـ».

مقالات ذات صلة