مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

الميزان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

لما كان الإيمان بالأمور الغيبيّة يزيد إيمان العبد، فيجعله منقادًا إلى شرع الله تعالى مستسلمًا لأمره مصدِّقًا بوعده؛ كان على المؤمن أن يُصدِّق بما أخبر الله تعالى به من أمور الغيب دون تردُّد أو شكّ.وليس مجرَّد الإيمان بأسمائها يكون كافيًا في ذلك، بل لا بُدّ من الإيمان بحقيقتها وعدم تأويلها وعدم تحريف الكلِم عن مواضعه، فيسلُك المسلم في ذلك مسلكَ سلف الأمة.

ومن الأمور الغيبية التي جاء النصُّ بها: الميزان، وأنه حقٌّ لا مرية فيه.قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: «ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض، والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط، والميزان».

لقد تكاثرت النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة في إثبات حقيقة الميزان.فمن آيات القرآن الكريم:﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]. ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 8-9]. ﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6-9]. ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7]. ﴿ فلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105].﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17].

وأمّا دلالة السنّة على حقيقة الميزان:فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرَّحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم». أخرجه الشيخان(1).

وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيءٍ يوضعُ في الميزان يوم القيامة أثقلُ من حُسن الخلُق». أخرجه أبو داود والترمذي وصحَّحه ابن حبان(2).

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليأتي الرجُل العظيم السمين يوم القيامة لا يزِنُ عند الله جناحَ بعوضة». أخرجه الشيخان(3).

وقال صلى الله عليه وسلم عن ساقَي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «والذي نفسي بيده، لهُما أثقلُ في الميزان من أحُد»(4).

قال ابن كثير: «تفرَّد به أحمد، وسندُه جيِّد قويّ».وعن أبي مالك الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان...». أخرجه مسلم(5).

ولصراحة النصوص في إثبات الميزان نصَّ عليه أهلُ السنّة في مصنَّفاتهم العقدية واطّرحوا الأقوال المخالفة للنصوص ونبذوها وراءهم ظهريًّا.

قال الإمام الطحاويّ رحمه الله تعالى: «ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال ليوم القيامة... إلى أن قال: والصراط والميزان».

وقال السفّاريني: «والحاصل أنّ الإيمان بالميزان كأخذِ الصُّحُف ثابتٌ بالكتاب والسنّة والإجماع».وقد ضلّ أقوامٌ من أهل البدع والضلال فأنكروا حقيقةَ الميزان وزعموا أنه ليس ميزانًا حقيقيًّا وإنما يُراد به عدلُ الله تعالى عند حسابه للناس! وهذا من تحريف الكلِم عن مواضعه ومن إنكار ما أثبته الله تعالى.فعدلُ الله تعالى وعدمُ ظلمه للناس ممَّا استقرَّ في الفِطَر وتواترت به النصوص، فهو معلومٌ من طريق الفطرة والعقل والسَّمع، أمَّا حقيقة الميزان فجاءت من طريق السَّمع، وهي على ظاهرها كما ذكر ذلك أهلُ السنّة في مصنّفاتهم العقدية.

سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الميزان، فأجاب بقوله: «هو ما يوزَن به الأعمال، وهو غيرُ العدل كما دلّ على ذلك الكتاب والسنّة...» الخ كلامه(6).

والشُّبهة التي تشبّث بها أهلُ الأهواء في إنكارهم لحقيقة الميزان: زعمُهم أنّ الأعمال أعراضٌ وهي مما لا يبقى، ثمَّ لو بقيت فيمتنعُ وزنُها؛ لأنها لا توصَف بخفّة ولا ثِقَل، ثمّ قالوا: والله تعالى عالم بجميع ذلك، وعلى ذلك فلا فائدةَ في وزن الأعمال، واللهُ تعالى منزّهٌ عن ذلك! هكذا زعموا وعلى ذلك بنَوا حُجَّتهم.وحُجَّتُهم هذه حُجّة داحضة متهافتة، وبيان ذلك: أنّ النصوص جاءت مثبتةً لكلّ ما زعموا نفيَه، وعلى ذلك فمبدأ المسلم: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: «وأمَّا المستبعِدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيءٍ من الشرع يُرجَعُ إليه، بل غايةُ ما تشبَّثوا به مُجرَّد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حُجَّة على أحَد، فهذا إذا لم تقبلهُ عقولهم فقد قبِلتهُ عقول قومٍ هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى إذا جاءت البدَع كالليل المظلم وقال من شاء كلَّ ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم»(7) انتهى كلامُه رحمه الله تعالى.

ولقد ردَّ أهلُ السنة على حُجَّة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم في نفيهم لحقيقة الميزان بدعوى أنّ الأعمال أعراضٌ لا تبقى ولا تُوزَن، وأنها أيضًا معلومةٌ عند الله.. فردَّ أهلُ السنّة على هذه الحُجج الداحضة بأنّ النصوص صريحة في إثبات ذلك ولا عبرة بما خالفها، ثمّ إنّ وزن الأعمال فيه من الحِكَم أيضًا إظهار لعدل الله تعالى وإقامة للحُجّة على المفرِّطين، ليهلك من هلك عن بيِّنة.ثمّ إنّ من لازم قول المبتدعة في نفيهم لحقيقة الميزان وغيره من الغيبيَّات: فسادٌ عريض وشرٌّ مستطير، وأيُّ فسادٍ أعظم من تكذيب ما أخبر الله تعالى به أو أخبر به نبيُّه صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام القرطبي في أثناء كلامه عن فساد أقوال المكذِّبين بالنصوص: «قال علماؤنا: ولو جاز حملُ الميزان على ما ذكروه لجاز حملُ الصراط على الدِّين الحقّ! وحملُ الجنّة والنار على ما يَرِدُ على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح! ... وحمل الشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة! وحمل الملائكة على القُوى المحمودة! وهذا كلّه فاسدٌ؛ لأنه ردٌّ لما جاء به الصادق ج» انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

ولمّا كانت النصوص المتعلّقة بالميزان كثيرةً فرّع أهل العلم على ذلك مسائل، فمن ذلك: نوعُ الموزون الذي يوضع في الميزان.فقد ذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أنّ الموزون هو صُحُف الأعمال، وذهب آخَرون إلى أنّ الموزون هم العباد أنفُسُهم، وذهب فريقٌ ثالثٌ إلى أنّ الموزون هي الأعمال.وخلافُهم ذلك عائدٌ على تنوُّع الأدلة في ذلك، ولذا سلك جمعٌ من أهل العلم طريق الجمع بين الأدلة كلِّها، ومن أولئك العلماء الإمام ابن كثير، فقد ساق الأقوال في ذلك ثم قال: «وقد يُمكن الجمعُ بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كلّه صحيحًا، فتارةً توزن الأعمال، وتارةً توزن محالُّها، وتارةً يوزَن فاعلُها، والله أعلم» انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقال شارح «الطحاوية»: «فثبت وزنُ الأعمال والعامِل وصحائف الأعمال». ومما ذكرهُ أهل العلم في مسألة الميزان: صفة الميزان.

فقد أورد كثيرٌ من المفسِّرين وغيرهم أخبارًا وآثارًا كثيرةً في صفة الميزان وأصله وأحواله، إلا أنّ أغلب تلك الرِّوايات والآثار لا قيمةَ لها في ميزان النقد عند المحدِّثين.وإذا تيقّن العبدُ أنّ الميزان حقيقةٌ لا شكّ فيها ولا ريب؛ فعليه أن يؤمن بذلك ويُسلِّم، وليعلم أنّ ذلك المسلك هو مسلكُ الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا.

ومن ثمرات الإيمان بالميزان: إقامة الحُجّة على الناس، وإظهار عدل الله تعالى، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرَّة.ومن الثمرات أيضًا: قُرَّة أعيُن الفائزين عند رؤية المبشِّرات المعجَّلة قبل دخول الجنّة.فاللهَ نسأل أن يزيدَنا إيمانًا وتسليمًا.اللهمَّ ثقِّل موازيننا بالحسنات واجعلنا من الآمنين حين تُنصَب الموازين.اللهمَّ اجعلنا من الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.


(1) البخاري كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿ ونضع الموازين القسط.. ﴾ (7563)، ومسلم كتاب الذِّكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (6786).

(2) أبو داود كتاب الأدب، باب في حُسن الخلُق (4799)، والترمذي كتاب البرّ والصلة، باب ما جاء في حُسن الخلُق (2003) واللفظ له.

(3) البخاري كتاب التفسير، باب ﴿ أولئك الذين كفروا.. ﴾ (4729)، ومسلم كتاب صفات المنافقين، باب كتاب صفة القيامة (6976).

(4) أحمد (3991).

(5) مسلم كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء (553).

(6) «مجموع الفتاوى» (4/302).

(7) «فتح القدير» (2/190)، و«تحقيق البرهان» (ص16).

مقالات ذات صلة