مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

مقدمة كتاب الأماني العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

وبعد: فمما تواطأت عليه النصوص شرف منزلة العلم ورفيع مكانة أهله فالرفعة رفعتان.

رفعة عامة لأهل الإيمان على غيرهم ورفعة خاصة لأهل العلم من أهل الإيمان على من سواهم من أهل الإيمان، وقد اجتمعت الرفعتان في قوله تعالى : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾. كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين.قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : «إن الله سبحانه شرّف أهل العلم ورفع أقدارهم ، وعظّم مقدارهم ، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، بل اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله ، وأنهم المستحقون شرف المنازل ، وهو مما لا ينازع فيه عاقل ، واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة.

إذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس ، وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع ، وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ، ودلَّ على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به ، فهو إذا العلة في الثناء ، ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزيةٌ على غيرهم ، ومن ذلك صار العلماء حُكَّاماً على الخلائق أجمعين ، قضاءً أو فتيا أو إرشاداً ؛ لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكِمٌ بإطلاق»(1).

شاهد المقال أنه إذا كانت منزلة العلماء أشرف المنازل بين الناس لعظيم أثر العلم عليهم ، فقد يكون من تابع ذلك بل قد يكون من لازمه: أن أمانيهم أفضل الأماني وأرفعها.وكيف لا يكون ذلك وتلك الأماني أصل منبتها وسقيها وثمارها حياض العلم.

وفي تلك الأماني العلمية ثمار جليلة منها:

- شحذ الهمم وقوة العزائم في التزوّد العلمي.

- جريان الأجر على من حققها وانتفع بها ونفع بها ومن بلغ.

- عظيم الأجر في ذلك لصاحب الأمنية الأوَّل لا ينقص من أجور الآخرين شيء ، وفي هذا يقال: لله درُّّ العلم وأهله ، فكم جرّت خواطرهم وأمانيهم من خير على من بعدهم. ناهيك عما خطّه بنانهم ولفظه بيانهم . رحم الله تعالى أمواتهم وبارك في أحيائهم.

- تضمن الأمنية التنصيص أو التنويه على بالغ نفع المشروع أو المبحث العلمي المشار إليه يزيد أهل العلم عناية به.

- البرُّ بذلك الإمام الذي حثَّ أو نوّه في أمنيته. ذلك أن تحقيق ما أشار إليه -كما تقدم آنفا- .

- قد يكون من تحقيق أمنية العلماء من باب (( قضاء الحوائج لهم )) ذلك أن قضاء حاجة المسلم في الأمور الدنيوية يؤجر عليها من قضاها أو سعى في قضائها . فكيف بقضاء أو تحقيق أمنيةٍ يترتب على قضائها خير علمي يتعدى نفعه . لا ريب أن الأجر أكثر والنفع أعظم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم صغير في حجمه كبير في نفعه . فقد تضمن مجموعة من أماني وتنويه ثلّة من علماء الشريعة حقَّ لي أن أقول عن تلك الأماني – وكل أمنية علمية – أنها مفاتيح صغيرة لأبواب من الخير عظيمة . ذلك أن تحقيق الأمنية يتعدى نفعه ويبقى أثره.وأحسبُ أنَّ هذا الموضوع – أماني العلماء – وليد عهدٍ في باب التأليف إذْ لم أرَ ولم أسمع – حسب بحثي القاصر – سبقاً في هذا الموضوع قبل هذا الكتاب الذي بين يديك.

لطيفة:وإذا كان تحقيق أماني العلماء من البرّ بهم فمن عقوقهم والإساءة لهم ، التعدي على حقوقهم وأشنع من ذلك إذا نص العالم على حقه وحذر من التصرف فيه – وحبذا أن يفرد ذلك بمصنف – ومن لطيف ما يحضرني شاهداً في هذا المقام قول ياقوت الحموي في مقدمة كتابه معجم البلدان . «ولقد التمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مرارا ، فأبيت ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصارا ، فما انقدت لهم ولا ارعويت ، ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيّع نَصَبيَ ، ونَصْبَ نفسي له وتعبي ، بتبديد ما جمعت ، وتشتيت ما لفّقت ، وتفريق ملتئم محاسنه ، ونفي كل علقٍ نفيس عن معادنه ومكامنه ، باقتضابه واختصاره ، وتعطيل جِيدِه من حُليِّه وأنواره ، وغَصبه إعلان فضله وأسراره ، فرُبَّ راغبٍ عن كلمةٍ غيره متهالك عليها ، وزاهدٍ عن نُكتةٍ غيرُه مشغوفٍ بها ، يُنضي الركاب إليها.فإن أجَبْتَني فقد بررتني ، جعلك الله من الأبرار ، وإن خالفتني فقد عققتني والله حسيبك في عقبى الدار.ثم اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خَلْقٍ سَوِيٍّ ، فقطع أطرافه فتركه أشلَّ اليدين ، أبترَ الرجلين ، أعمى العينين ، أصلم الأذنين ؛ أو كمن سلب امرأة حليّها فتركها عاطلا ، أو كالذي سلب الكَمَيّ (2) سلاحه فتركه أعزلَ راجلا.وقد حُكِيَ عن الجاحظ أنه صنّف كتاباً وبوّبه أبواباً ، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء ، وقال له : يا هذا إن المصنِّف كالمصوِّر وإني قد صَوّرتُ في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعوَّرتهما ، أعمى الله عينيك ، وكان لها أذنان فصلمتهما ، صلَّم الله أذنيك ، وكان لها يدان فقطعتهما ، قطع الله يديك ، حتى عَدَّ أعضاء الصورة ، فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار ، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله»(3).

وعوداً على بدء أقول:إنَّ لهذا البحث – أماني العلماء – نظائر في أصله يجمعها قاسم مشترك هو: كلمات أطلقها العلماء لو ضمت النظائر من تلك الكلمات إلى بعضها لنتج من ذلك مواليد مصنفات بديعة .

ومما سبق في هذا :

 - أخلاق العلماء للإمام الآجري.

- كتب حذّر منها العلماء لــ . مشهور حسن سلمان.

- كتب أثنى عليها العلماء لــ . عبدالإله الشايع. وقد يلحق ما سبق بعد الاستقراء والتتبع .

- عقوق العلماء في مصنفاتهم . وقد سبق خبر ياقوت مثالا لهذا.

- من وصايا العلماء.

- من بر العلماء بوالديهم.

- من عبادات العلماء .

- من دعابات العلماء وغير ذلك .

لأن التصنيف في مثل هذا: رحم ولود.ولا أظن طلاب العلم وأهله في غُفَلٍ عن ذلك فقد يكون بعض ما أشرت أو كلّه قد صنف فيه .

وبكل حال فالمراد التنويه على تلك المباحث العلمية وأمثالها ، لعل طالب علم ينشط إلى جمع ما لم يزل متفرقا من تلك النظائر فينتفع وينفع.

ختاما:هذا ما يتعلَّق بالمؤلَّف المجموع.وأما ما يتعلق بالمؤلِّف الجامع:فشكر الله تعالى لفضيلة الشيخ الدكتور أبي عمر. عبدالعزيز بن عبدالله الشايع حسن انتقاءه العلمي وتوثيقه المصدري وبورك فيه فلا زال مفيداً بما يستفيد . وطالما قرّت عيناي وتشنفت أذناي ببديع فوائده ولطائف فرائده يزين ذلك سمتٌ فاضل في شخصه الكريم.عرفتُ ذلك من مجالسه ومجالسته وكتاباته . وهذا البحث منها وليس –إن شاء الله تعالى- آخرها.جعله الله مباركاً أينما كان ونفع بقوله وفعله وقلمه .والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

عبدالعزيز بن محمد السدحان

2/11/1433هـ


(1) الاعتصام للشاطبي.

(2) الكَمَيُّ : لابس السلاح

(3) معجم البلدان ص 13-14.

مقالات ذات صلة