مكتبـــــة المقالات

2025-10-28 10:00:00

مقدمة كتاب الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة لكتاب [الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ]. إعداد عبدالعزيز بن ريس الريس

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أما بعد:

فإن دعوة الناس إلى سبيل الخير وبذل النصح والتوجيه والتعليم لهم من أعظم الوظائف شرفاً وأعلاها قدراً.فتلك هي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام .ولشرف تلك الوظيفة وسمو منزلتها سلك طريقها عدد غير قليل من مريدي الإصلاح ؛ طمعا في الأجر وحصول النفع ، إلا أنه مما ينبغي أن يُعلم أن رغبة الإنسان وحرصه على دعوة الناس للخير لا تشفع له أن يقدم على ذلك مطلقاً ، ذلك لأن دعوة الناس إلى الخير قُرْبة يتقرب بها العبد إلى ربه ، والقربة إذا لم تؤدَّ على وجهها المشروع ضرَّت الداعي والمدعوين ، ناهيك عن تلبُّس الداعي بالإثم لعمله لا علم.

وعوداً على بدء يقال: إن دُعاة الإصلاح كثير إلا أن الميزان الذي يميز به الصواب من الخطأ هو عرض أساليب الإصلاح على نصوص الكتاب والسنة ، وشواهد ذلك كثيرة : منها قوله صلى الله عليه وسلم : « تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله ، وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يرد علي الحوض » أخرجه الحاكم عن أبي هريرة.

وما أحسن قول القائل:

والشرع ميزان الأمور كلها **وشاهد لفرعها وأصله

وعليه : فعزّة المسلمين أو ذلتهم خاضعة لمعيار تمسكهم بتعاليم دينهم ، ولذا يرى الناظر – في بعض مجتمعات المسلمين – ما يندى له الجبين ويتفطر له القلب. فهناك البعد عن التمسك بالنصوص الشرعية مما يترتب من جرائه : غياب كثير من معالم السنن وانتشار البدع وتفشي رائحتها النتنة ، فكثير من بلاد المسلمين تلك المساجد التي تحتضن بين جنباتها أضرحة يُتحرى حولها ومن أصحابها إجابة الدعاء .

بل يجتهد بعضهم في شد الرحال إلى تلك الأضرحة ، فانتشرت البدع في تلك المجتمعات ، وكان لها سوق رائجة في عقائد الناس وعباداتهم وسلوكياتهم ، حتى إن الزائر لبعض بلاد المسلمين يجهد في البحث عن مسجد يخلو من بدعة فلا يكاد يجد مطلبه.

ومن أعظم أسباب ذلك :التهاون بأمر مخالفة السنن ؛ مما أدى إلى ظهور البدع وفشو أمرها حتى أصبحت السنن غريبة مقابل اشتهار البدع فشب عليها الصغير وشاب عليها الكبير .

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن فعل القليل من البدع يؤدي إلى فعل الكثير ثم يشتهر أمره ثم قال – رحمه الله تعالى – : « ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس »(1).

وقال في موضع آخر معدداً لمفاسد البدع: « ومنها أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن ، حتى تجد كثيرا من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس . ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسببها (2)  عنايتهم بالفرائض والسُنن وتفتر رغبتهم فيها ، فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة.. »(3)

ومن لازم القول في هذا المقام أن يُقال: بأنه يقع جزء كبير من المسئولية على دُعاة الإصلاح في تلك البلاد ذلك لأن طريقة دعوتهم دَاخَلَها خلل كبير في الأفعال والأقوال . فعلى سبيل المثال : غلّبت بعض المناهج جانب التعبد والرقائق وكان ذلك أبرز ما في دعوتهم ، بل كان جل اهتمامهم منصباً على تربية النفوس وذلك بالإكثار من التعبد والتزهد والضرب في الأرض. فترتب من جرّاء ذلك غض الطرف عن انحرافات عقدية وأمور بدعية بل حتى ذلك التزهد والتعبد دَاخَلَه خلل وانحرف لكونه مفتقراً لكثير من علوم الشريعة.ومنهج آخر غلّب أصحابه الاهتمام بدراسة واقع الأمة وتشخيص الخطر المحدق بها – وهذا لا شك مطلب شرعي – إلا أن المأخذ على أولئك هو تغليب هذا الجانب على حساب جوانب أهمّ منه ، يضاف إلى ذلك : أنهم عالجوا بعض قضايا الأمة بعواطف جيّاشة عرية من العلم الشرعي ، مما ترتب عليه إضاعة الجهود فضلاً أن تكون تلك العواطف سبباً للتلبس بالآثام بسبب الإعراض عن النصوص الشرعية.

ومناهج أخرى سعت جاهدة إلى تكثير سوادها دون تمحيص ونظر دقيق ، فترتب من جرَّاء ذلك غض الطرف عن انحرافات عقدية وأمور بدعية ظنّا منهم أن إثارة تلك الأمور والنكير على أصحابها قد يسبب الفرقة.ومناهج أخرى حكّم أصحابها عقولهم في معالجة كثير من الأمور و جانبوا دلالات النصوص الشرعية فكان من نتائج ذلك ما لا تحمد عقباه من خطورة الإعراض عن النص ناهيك عن الآثار السلبية المترتبة على ذلك المنهج.

قال الإمام السجزي – رحمه الله تعالى - : « ولا خلاف بين المسلمين في أن كتاب الله لا يجوز ردّه بالعقل ، بل العقل دلّ على وجوب قبوله والائتمام به ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إذا ثبت عنه لا يجوز ردّه ، وإن الواجب ردّ كل ما خالفهما أو أحدهما » (4).

وقال الإمام البربهاري – رحمه الله تعالى – : « واعلم رحمك الله أن الدين إنما جاء من قِبَل الله تبارك وتعالى لم يوضع على عقول الرجال وآرائه وعلمه عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم »(5).

وبكل حال فأصحاب هذه المناهج المخالفة لطريق سلف الأمة يصدق عليها قول القائل: « لا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا » بل زادوا المشقة والعناء على أهل المنهج السليم المقتفي أثر سلف الأمة عليهم رحمة الله.شاهد المقال: أن على من أراد الإصلاح أن يجعل نصب عينيه : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(6)، فكل من دعا على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير بصيرة ولو كثر سواده وطار صيته .

والمتأمل في ختام الآية السابقة يجد أنها جاءت نتيجة لمقدمة ، فمن دعا إلى الله على بصيرة نجا من الوقوع في الضلال وأعظمه الشرك ، ومن دعا إلى الله على غير بصيرة فهو معرض للوقوع في الضلال وأعظمه الشرك. ويزداد المصاب إذا ادعى أولئك الداعون على غير بصيرة أنهم على منهج سليم.

قال الإمام السجزي – رحمه الله تعالى – : « ... وإذا كان الأمر كذلك فكل مدّع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله فإن أتى بذلك عُلم صدقه وقٌبِل قوله ، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف عُلم أنه محدث زائغ وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو يناظر في قوله ..» (7).

فمن تولى أمر دعوة الناس ونَصَّبه الناس داعية لهم أن يتقي الله تعالى في نفسه ، وأن تكون دعوته على علم شرعي ؛ ليعلم أنه في مقام القدوة ، فإن أحسن أحسن من ظن به خيراً ، وإن أساء أساء من ظن به خيراً ويتحمل تبعاتهم لإقدامه على العمل بلا علم.

قال عمر – رضي الله عنه – : «.. فمن سوَّده على الفقه ، كان حياة له ولهم ، ومن سوَّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم » (8).

ختاماً بين يديك – أخي القارئ – هذه الرسالة المتضمنة لفتوى مسددة مؤصّلة لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كان جواباً لسؤال عن صحة طريقة دعوية سلكها بعض مريدي الخير فأفاض شيخ الإسلام في الإجابة ودلل ومثّل وقعّد وأصل ، فرحمه الله وأجزل له المثوبة ، ولقد قام الشيخ عبدالعزيز الريس – أثابه الله تعالى – بنقل تلك الفُتيا مذيّلاً لها بتعليقات تضمنت نقولات وفوائد كثيرة.وجعل الشيخ عبدالعزيز – أثابه الله تعالى – رسالته هذه في الكلام والإيضاح لفرقة دعوية عُرفت واشتهرت باسم «التبليغ» أخذ أصحابُ تلك الدعوة على عواتقهم السعي في الإصلاح ، لكنهم وقعوا في أمور محذورة شرعاً في أصل دعوتهم فضلاً عما اشْتُهِر عن بعض قادتها من الانحراف العقدي ، يؤكد ذلك ما جاء في بعض كتبهم – وقد نقل الباحث شيئاً من ذلك في مقدمة الرسالة – وكذا ما شاهده بعض الثقات ممن صحبوهم حيناً من الدهر.ولأجل ذا وذاك نبّه على أخطائهم وحذَّر منها غير واحد من العلماء الكبار المشهود لهم بالرسوخ في العلم مع سلامة المنهج وصحة المعتقد ، وكذا بعض طلبة العلم بل قد أُفْرِدت فيهم مصنفات مستقلة كما سترى كل ذلك في ما ذكره الباحث من النقولات الموثقة.

فشكر الله للشيخ عبدالعزيز الريس حرصه وغيرته على السُّنة ، فبيان الحق والتحذير من الخطأ من الجهاد في سبيل الله ، كما قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (9)، نقل القرطبي – رحمه الله تعالى – في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – أنه قال : «والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا» (10).

ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط ، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين ، وأعظَمُهُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر » (11).

وقد أحسن الباحث في اختياره لهذه الفتيا لشيخ الإسلام فهي بحق نعم الفتيا ، وجدير بأن تسمى « الفتوى المنهجية للدعوة الشرعية » وقد علقت على كلام الباحث بعض التعليقات التوضيحية . والله أعلم.وختاما: فمما ينبغي التنبيه عليه أن من المنتسبين إلى تلك الجماعة ثلّة من الأفاضل الأخيار من أهل المعتقد السليم. احتسبوا أوقاتهم وأموالهم ابتغاء مرضات الله تعالى فسعوا جاهدين في مناصحة بعض المتلبسين بالمعاصي وحببوا إليهم فعل الخيرات وترك المنكرات ، فتأثر بهم عدد غير قليل من الناس فجزاهم الله تعالى خيراً على جهودهم وزادهم الله من فضله.

ولأولئك وأمثالهم يُقال:سيروا على بركة الله تعالى في دعوة الناس إلى الخير واحتسبوا أجركم وأبشروا وأملّوا بالخير من ربكم.

* عليكم بالاهتمام بأمر التوحيد وتذكير المدعوين به وبخاصة في تلك المجتمعات التي أصبح أمر التوحيد فيها غريباً ، بيّنوا لهم بالأسلوب الحسن.

* عليكم بالرجوع إلى العلماء الراسخين المعروفين بصحة المعتقد وسلامة المنهج فالزموا مجالستهم وزيارتهم وسؤالهم عما يشكل : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(12).

* إذا تبين وعُرف عن قادة تلك الجماعة وأصول دعوتها ما ذكر من الانحرافات العقدية فالواجب عليكم مناصحتهم مكاتبتهم أو مشافهتهم وتذكيرهم بالحق ، فإن استجابوا ورجعوا عما كانوا عليه فبها ونعمت ، وإلا فالواجب البراءة منهم وعدم تكثير سوادهم.

* من علم من نفسه القدرة علماً وعملاً على نصحهم فيؤد النصح والبيان ومن لم يعلم ذلك من نفسه فيحذر من التلبس بالإثم وليترك ما يضعف عنه كما نصح بذلك غير واحد من أهل العلم وعليه أن يدعو إلى الخير دون انتساب إليهم فأبواب الخير مشرّعة لا تعدّ ولا تحصى.الله أسأل أن يوفِّق دُعاة الهدى إلى كل خير وأن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.إنه سميع مجيب.

د.عبدالعزيز بن محمد السدحان

22/3/1421هـ


(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 209.

(2) أي بسبب البدع.

(3) اقتضاء الصراط المستقيم ص 291-292.

(4) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 93.

(5) شرح السنة للبربهاري ص 66-67.

(6) سورة يوسف ، الآية : 108.

(7) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 100.

(8) أخرجه الدارمي ص 69 برقم 257 .

(9) سورة العنكبوت ، الآية : 69.

(10) تفسير القرطبي ( 13/365).

(11) إغاثة اللهفان (1/142،143).

(12) سورة النحل ، الآية: 43.

مقالات ذات صلة